فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (4):

قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)}.
المراد بالإيتاء: ما يعمّ المناولة والالتزام.
و(الصّدقات): جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق بمعنى المهر.
والنّحلة: العطية من غير عوض، ومن ذلك النّحلة بمعنى الديانة، لأنها عطية من الله تعالى، وكذلك النحل لما يعطي من العسل، والناحل المهزول، كأنه أعطى لحمه حالا بعد حال بلا عوض، والمنحول من الشّعر المنسوب لغير قائله، ومن فسّر النّحلة هنا بالفريضة نظر إلى أنّ هذه العطية مفروضة من الله محتومة، كما قال تعالى بعد آيات المواريث: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11].
ذهب ابن عباس إلى أن الخطاب في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ} للأزواج، وكان الرجل يتزوّج بلا مهر، يقول: أرثك وترثينني، فتقول: نعم، فأمروا أن يسرعوا إلى إيتاء المهور، وقيل: الخطاب للأولياء: أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيّما، أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك ونزلت: {وَآتُوا النِّساءَ} الآية.
والضمير المجرور بمن في قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} عائد على الصّدقات، وذكر لإجرائه مجرى الإشارة، وكثيرا ما يشار بالمفرد إلى المتعدد، كأنه قيل: طبن لكم عن شيء من ذلك المذكور، وهو الصدقات، كما قال رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنّه في الجلد توليع البهق

أراد: كأنّ ذلك، وليس المراد من قوله تعالى: {فَكُلُوهُ} خصوص الأكل، إنما المراد حلّ التصرف فيه، وخصّ الأكل بالذكر، لأنه معظم وجوه التصرفات المالية، وتقدّم نظيره في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} [النساء: 2] والهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام يهنؤ هناءة، فهو هنيء، ومرؤ يمرؤ مراء، فهو مريء.
قيل: معناهما واحد، وهو خفة الطعام على المعدة، وانحداره عنها بلا ضرر.
وقيل: الهنيء الذي يلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه، وهو المريء كأمير، وهو رأس المعدة اللاصق بالحلقوم، سمّي بذلك لمرور الطعام فيه أي انسياغه.
دلت هذه الآية على أمور منها، أن الفروج لا تستباح إلا بصداق ملزم، سواء سمّي ذلك في العقد أو لم يسمّ.
وأن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع، لأنّ الله تعالى جعل منافع النكاح: من قضاء الشهوة، والتوالد، مشتركة بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر، فكان ذلك عطية من الله ابتداء.
وأنه يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها، أو جزءا منه، سواء أكان مقبوضا معينا، أم كان في الذمة، فشمل ذلك الهبة والإبراء، وأنه ينبغي للأزواج الاحتياط فيما أعطت نساؤهم، حيث بني الشرط على طيب النفس، فقال: {فَإِنْ طِبْنَ} ولم يقل: فإن وهبن إعلاما بأنّ المراعى في ذلك هو تجافيها عن المعطى طيّبة به نفسها، من غير أن يكون السبب فيه شراسة خلق الزوج، أو سوء معاشرته.
وأنه يحلّ للزوج أخذ ما وهب زوجته بالشرط السابق من غير أن يكون عليه تبعة في الدنيا والآخرة.
واحتج الجصاص بقوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} على إيجاب المهر كاملا للمخلو بها خلوة صحيحة، ولو طلّقت قبل المساس، وأنت تعلم أنّ هذه الآية عامة في كل النساء بسواء المخلوّ بها وغيرها، إلّا أنّ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] يدل على أنه لا يجب للمخلوّ بها إلا نصف المهر، وهذه الآية خاصّة، ولا شك أن الخاصّ مقدم على العام، فالخلوة الصحيحة لا تقرّر المهر كلّه.

.تفسير الآية رقم (5):

قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (5)}.
أصل السفه: الخفة والحركة. يقال تسفّهت الريح الشجر إذا أمالته، والمراد به هنا خفّة الأحلام، واضطراب الآراء، ومن معاني القيام الانتصاب على القدمين، والاعتدال، وما يعاش به، وهذا الأخير هو المناسب هنا.
واختلف المفسّرون في تعيين المخاطبين بقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} كما اختلفوا في المراد من السفهاء على أقوال أشهرها: أن المخاطبين هم أولياء اليتامى، والسفهاء هم اليتامى مطلقا، أو المبذرون بالفعل، والأموال أموالهم، لا أموال الأولياء، وعليه يكون ذكر هذه الآية الكريمة رجوعا لبيان شيء من الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى، وتفصيلا لما أجمل فيما سبق، ويكون ذكر الأحكام المتعلقة بنكاح الأجنبيات ومهورهنّ وهبتهنّ استطرادا، وإنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء المخاطبين مع أنها أموال اليتامى للمبالغة في حملهم على المحافظة عليها، بتنزيل أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء، لما بين الولي واليتيم من الاتحاد في الجنس والنسب، ونظيره قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فإنّ المراد لا يقتل بعضكم بعضا، إلّا أنّه عبّر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل، حتى كأنّ قتلهم قتل أنفسهم، وعلى هذا القياس قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً} إذ عبّر عن جعل الأموال مناطا لمعاش اليتامى بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب عكرمة وابن جبير وكثير من متأخري المفسرين.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أنّ الخطاب لكلّ عاقل من الناس جميعا، وأنّ المراد من السفهاء النساء والصبيان، والمقصود النهي عن إيتاء المال لمن لا رشد له من هؤلاء، وعليه تكون إضافة الأموال إلى ضمير المخاطبين على حقيقتها.
وقيل: المراد من السفهاء النساء خاصة، سواء أكنّ أزواجا أم أمهات أم بنات.
وقيل: إنّ السفهاء عامّ في كلّ من ليس له عقل يفي بحفظ المال وحسن التصرف فيه، ويدخل فيه الصبيّ والمجنون والمحجور عليه للتبذير.
وعلى أي تأويل ترى في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً} دلالة على النهي عن تضييع المال، ووجوب حفظه وتدبيره، وحسن القيام عليه، حيث قد جعله تعالى سببا في إصلاح المعاش وانتظام الأمور، وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن.
وقال بعضهم: لأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس.
وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنّه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال.
وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي إن أدنتني منها فقد صانتني عنها، وفي منثور الحكم: من استغنى فقد كرم على أهله، وكانوا يقولون: اتّجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم فيه كان أول ما يأكل دينه.
{وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ} أي اجعلوا أموالكم مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتّجروا فيها حتى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال، لئلا يأكله الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل (منها) لكان الإنفاق من نفس المال.
وفي الآية دلالة على وجوب الحجر على المبذّرين من وجهين:
أحدهما: منعهم من أموالهم:
والثاني: إجازة تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم من أموالهم، وشراء أقواتهم وكسوتهم.
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل فهو معروف، وكل ما أنكرته النفس لقبحه شرعا أو عقلا فهو منكر، فالمراد بالقول المعروف هنا الكلام الذي تطيب به نفوسهم، كأن يقول الولي لليتيم: مالك عندي، وأنا أمين عليه، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك.
وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة، وقال القفال: إن كان صبيا فالولي يعرفه أنّ المال ماله. وهو خازن له، وأنه إذا كبر ردّ إليه ماله، وإن كان سفيها وعظه ونصحه، وحثّه على الطاعة، ونهاه عن التبذير والإسراف، وعرّفه أنّ عاقبة الإتلاف فقر واحتياج.

.تفسير الآية رقم (6):

قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)}.
الابتلاء: الاختبار.
المراد ببلوغ النكاح هنا وبلوغ الحلم المذكور في قوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] الوصول إلى حد البلوغ، وهو حد التكليف، والتزام الأحكام، وذلك إما أن يكون بالاحتلام أو الحيض أو بالسن كما هو معروف في كتب الفقه.
وأصل الإيناس النظر إلى ما يؤنس به من بعد مع وضع اليد على العين، وقيل: أصله الإبصار مطلقا، وقيل: الإحساس، وعلى كل فالمراد به هنا التبيّن: أي علم الرشد بيّنا، والرشد الاهتداء إلى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال فقط، أو مع صلاح الدين، وإذا متمحضة للظرفية أو شرطية وجوابها الجملة الشرطية بعدها.
لمّا أمر الله بإيتاء أموالهم على الإطلاق بقوله: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} شرع في تعيين وقت تسليمهم أموالهم، وبيان شرط ذلك الدفع، فأمر الأولياء باختبار اليتامى في عقولهم وأحوالهم حتّى إذا علموا منهم بعد البلوغ أنّ لهم فهما وعقلا وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد دفعوا إليهم أموالهم.
واتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي على أنّ هذا الاختبار يكون قبل البلوغ وتشهد لهما الغاية، وقال الإمام مالك: إنه بعد البلوغ.
وفرّع أبو حنيفة على ذلك أنّ تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة، لأنّ ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء مثلا، وذلك يقتضي صحة التصرف، وقال الشافعي: الاختبار لا يقتضي الإذن في التصرف، ولا يتوقف عليه، بل يكون الاختبار دون التصرف، على حسب ما يليق بحال الصبي، فابن التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد، وحينئذ يعقد الولي إن أراد، وعلى هذا القياس.
وأنت خبير بأنّه لو جاز إذن الصبي في التصرف بالفعل لجاز دفع المال إليه وهو صبي، لأنّ المعنى الذي من أجله منع عنه ماله هو بعينه يقتضي عدم صحة تصرفه.
وأيضا تصرف الصبي في ماله يتوقف على دفعه إليه، ودفعه إليه موقوف على شرطين: بلوغه، ثم رشده.
وظاهر قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} أنه لا تدفع أموالهم إليهم، ولو بلغوا، ما لم يؤنس منهم الرشد، وهو مذهب الشافعي، وقول الصاحبين، وبه قال مجاهد، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عنه أنه قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط، ما لم يؤنس منه رشد، ونسب هذا القول للشعبي.
وقال الإمام أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله، وإن لم يؤنس منه رشد، وتقدم احتجاجه على ذلك عند الكلام على قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ}.
ونزيد على ما تقدّم أن الجصاص وصاحب الكافي قالا في الاحتجاج لمذهب الإمام: إنّ الشرط (رشد) نكرة، فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأوّل أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا، وإذا امتدّ الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا، وحدث ضرب من الرشد لا محالة.
وأنت تعلم أنّه إذا كان ضرب من الرشد كافيا كان الدفع حينئذ عن إيناس الرشد- وهو مذهب الشافعي والصاحبين- فلا يصحّ أن يقال: إنّ مذهب الإمام وجوب دفع المال إلى اليتيم بعد الخمس والعشرين سنة، سواء أونس منه رشد أم لا، بل يكون الخلاف بين الإمام وغيره في تعيين الرشد الذي اعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا هو؟
وذلك أمر آخر وراء ما نقل عن الإمام في هذه المسألة: على أنه إن أريد بهذا الضرب من الرشد الرشد في مصلحة المال، فكونه لابد أن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو يكاد يكون مصادمة للآية، لأنها كالصريحة في اشتراط الرشد في ضبط الأموال ورعايتها، ألا ترى أن الابتلاء المأمور به في أول الآية هو ابتلاؤهم فيما يتعلق بحفظ المال ورعايته، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا} إلخ فيجب أن يكون المراد فإن آنستم منهم رشدا في رعاية مصالح المال، لا ضربا من الرشد كيفما كان، وإلا تفكك النّظم، وضاع انسجام الكلام.
ومخالف الإمام يقوّي الاستدلال بالآية على مذهبه بالقياس الجلي، وذلك أن الصبيّ إنما منع منه ماله لفقدان العقل الهادي إلى حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى قائما بالشيخ والشاب كانا في حكم الصبي، فوجب أن يمنع دفع المال إليهما ما لم يؤنس منهما الرشد.
قال صاحب روح المعاني من الحنفية: ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنّع ابن حزم- ودأبه التشنيع على الأئمة- على أبي حنيفة رضي الله عنه، مع أنّ من تدبر ما ذهب إليه الإمام علم أن نظره في ذلك دقيق، لأن اليتيم إذا بلغ مبلغ الرجال، واعتبر إيمانه وكفره، وسلّم الله إليه نفسه يتصرف فيها حسب اختياره، كان منع ماله عنه أشبه شيء بالظلم، وهذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ فورا، إلا أنّنا أخّرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب، ورجاء الرشد والكف عن السفه، وما فيه من تبذير المال وفساده.
وسنّ البلوغ ثمانية عشر سنة زيد عليها سبع سنوات، لأنها مدة معتبرة شرعا في تغيير الأحوال، إذ الطفل يميّز بعدها، ويؤمر بالصلاة كما في الحديث، وبانضمامها إلى سن البلوغ يكمل لبّه، ويبلغ أشدّه، ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذه السن، فإذا بلغ هذه السن، ولم يتأدب: انقطع عنه الرجاء غالبا.
{وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.
الإسراف: مجاوزة الحدّ المباح إلى ما لم يبح.
والبدار: المسارعة، والمفاعلة بمعنى أصل الفعل، أو على أنها بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم، واليتيم يبادر نزعه.
كبر: يكبر كعلم يعلم، يستعمل في السن، وكبر يكبر كعظم يعظم في القدر والشرف.
واستعف عن الشيء كف عنه، وتركه، وهو أبلغ من عف، كأنه طلب زيادة العفة.
المعنى: أن الله ينهى الأولياء والأوصياء أن يأكلوا أموال اليتامى مسرفين ومبادرين كبرهم، ويرشدهم إلى أنّ من كان منهم ذا مال فليكفّ نفسه عن مال اليتيم، ولينتفع بما آتاه الله، ومن كان منهم فقيرا فليأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية، من سد الجوعة، وستر العورة.
وجملة: {وَلا تَأْكُلُوها} إلخ، معطوفة على جملة {وَابْتَلُوا الْيَتامى} ولا يصح عطفها على جواب الشرط قبلها، لفساد المعنى، لأنّ جواب الشرط وهو {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} يكون بعد البلوغ، والأكل إسرافا وبدارا أن يكبروا يكون قبل البلوغ، والنهي عن الأكل- الذي هو أساس الانتفاع، وتكثر الحاجة إليه- يدلّ على أن غيره من سائر الانتفاعات منهيّ عنه بطريق الأولى.
وقد استدلّ الجصاص بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا} على أنه لا يجوز للولي إمساك مال اليتيم بعد ما يصير في حد الكبر، قال: ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر هاهنا معنى، إذ كان الولي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده، فهذا يدلّ على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه.
وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة، لأنّ مثله يكون جدا، ومحال أن يكون جدا ولا يكون في حد الكبار.
ويقول الشافعية: إنّ المراد من قوله: {أَنْ يَكْبَرُوا} أن يبلغوا راشدين، عملا بقوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} وعبّر عن ذلك بالكبر لأنّ الغالب أنّ من بلغ حدّ الرجال كان رشيدا.
وظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يدل على الإذن للوصيّ الفقير في أن ينتفع من مال اليتيم بمقدار الحاجة، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً} فإنّه مشعر بأنّ له أن يأكل بقدر الحاجة، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} [النساء: 10]، إنه يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، والأكل الذي لا يعد ظلما هو الأكل بالمعروف وما أخرجه أحمد وأبو داود والنّسائي وابن ماجه من حديث ابن عمرو أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ليس لي مال، وإني وليّ يتيم، أفآكل من ماله؟ فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا متأثّل مالا، ومن غير أن تقي مالك بماله».
فإنّه يدلّ على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، والأكل الذي لا يعدّ ظلما هو الأكل بالمعروف، وإلى هذا الظاهر ذهب عطاء وقتادة، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني عنه أنه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله، ومنفعته له، ما لم يسرف أو يبذّر.
بقي النظر في هذا الذي يأخذه الولي من مال اليتيم، أيعدّ أجرة أم لا؟ حكى صاحب روح المعاني أنّ مذهب الحنفية أنه ليس بأجرة، ومن ذهب إلى أنه أجرة لم يفرّق بين الغني والفقير كما هو القياس في كل عمل يقابل بأجر، لا فرق فيه بين العامل الغني والعامل الفقير، وحينئذ يكون الأمر في قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} محمولا على الندب، كما هو اللائق بمحاسن العادات، ولا تزال في مجال الاجتهاد والنظر هذه الأجرة أهي مقدرة بكفاية الولي أم هي أجرة المثل؟ مقتضى القواعد الفقهية أنها تكون مقدرة بأجر المثل، سواء أكفت الولي أم لا.
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه ليس للوليّ أن ينتفع من مال اليتيم بشيء، وافترق هؤلاء في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} إلى طائفتين:
الأولى تقول: إن له أن يأخذ من مال اليتيم قرضا بقدر ما يحتاج إليه، ثم إذا أيسر قضاه، وهذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس.
والطائفة الثانية: ذهبت إلى أن ذلك حق اليتيم، ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد، ويميل إليه كلام الجصاص، وهو كما ترى تأويل بعيد كل البعد، لا ينتظم مع قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}.
ومن هذه الطائفة من ادّعى نسخ هذه الآية بقوله تعالى بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} فقد أخرج أبو داود وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} نسختها {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} إلخ.
{فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً} من معاني الحسيب الكافي والمحاسب، وكلاهما محتمل هنا.
يأمر الله تعالى الأولياء والأوصياء أن يشهدوا على اليتامى حين يدفعون إليهم أموالهم، بعد رعاية الشرطين السابقين: البلوغ، ثم الرشد، لأنّ ذلك الإشهاد أبعد عن التهمة، وأنفى للخصومة، وأدخل في الأمانة.
واختلف العلماء في أنّ الوصي إذا ادّعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يصدّق؟ وكذلك إذا قال: أنفقت عليه في صغره، هل هو مصدّق؟
فقال الإمامان مالك والشافعي: لا يصدق، وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: يصدّق.
واحتج مالك والشافعي بهذه الآية، فإنّ قوله تعالى: {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وليس معنى الوجوب هنا أنه يأثم إذا لم يشهد، بل المراد أنّ الإشهاد لابد منه في براءة ذمته ظاهرا، حتى إذا دفع المال ولم يشهد، ثم طالبه اليتيم، فالقول قول اليتيم بيمينه.
وقال الحنفية: إنّ الأمر للندب، وصرفه عن الوجوب أن الوصي أمين، والأمين إذا ادّعى الردّ على من ائتمنه صدّق، وقالوا إن قوله تعالى: {وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً} يشهد لهم في عدم لزوم البينة، فإنّ معناه أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم، روي ذلك عن سعيد بن جبير.
واختار جمهور المفسّرين أن المعنى وكفى بالله محاسبا لكم، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تتجاوزوا ما حدّ لكم. ولا يخفى موقع المحاسب هنا، وما فيه من الإشارة إلى أن الوصي سيحاسب على ما في يده من مال اليتيم، ثم يجزى على عمله الجزاء الأوفى.